Thursday 31 January 2008

جنة تباعُ فيها الملائكة

كان منظرها رائعاً وهي تجلسُ على كرسي والدتها مادةً جسدها الصغير لتصل يديها الى الورقة التي ترسمُ عليها زورقاً و تلونهُ بما لديها من ألوانٍ تعكسُ برآءتها؛ لم أستطع أن أقاوم جمالها و هي تبتسمُ آخذةً مني العلبة , إنحنيتُ عليها و قبلتها على وجنتها كما لو كنتُ أقبلُ ملاكاً فأستلهمُ منهُ بعض الطهر. تركتها وانا أدعو ربي أن يحفظها و لا يختبر أهلها فيها يوماً.
لطالما تمنيتُ أن أكون طفلاً لا يكبرُ أبداً؛ يتصرفُ على هواه, لطالما تمنيتُ أن أقفز و ألعب , لطالما تمنيتُ لو أركضُ وسط الحقول ماسكاً بطرف طيارتي الورقية.
الطفولةُ مرحلةٌ لا تقارنُ متعتها بسواها أيضاً؛ و أحلى ما فيها البرآءة التي يتمتعُ بها الأطفال فحتى المسيءُ منهم هو ليس إلا طفلاً أساء لا شر في داخله و لا همجية. برآءةُ تجعلُ الأطفال يستمتعون بالإستماعِ للقصص الجميلة ذات النهايات السعيدة, برآءةٌ تملأُ قلوبهم الصغيرة فلا تجعلهم يكترثون للونٍ أو عرقٍ أو طائفة , يكفيهم أنهم أطفال.

اليوم سمعتُ عن تقريرٍ لم يفاجئني في باديء الأمر ولكنه كان كجرحٍ تأخر في النزيف أو كسهم مسمومٍ شعرتُ بتأثيره بعد قليل , في بلادي, في العراق الجديد, عراق ما بعد الديكتاتورية , عراق حرية اللطم و ضرب الزناجيل و القامات,عراق الغد المشرق الذي لم يبزغ لهُ فجرٌ بعد, عراق الدستور الجديد الذي لم يحترمهُ أحدٌ حتى الذين كتبوه, عراق( الله اكبر) الذي اسقط نجمات الوحدة و الحرية و الأشتراكية الثلاث و تقبل خمسين نجمة من مغتصبي سجناء ابو غريب و قريباً سيتقبلُ نجمةَ داود,عراق الصحوة التي أضحت بلوة ,في العراق الديمقراطي التعددي: العمائم تعددت الوانها و القوات تعددت جنسياتها و الأحزاب تعددت أسمائها و مقارها و أهدافها و المصائب تعددت حتى ما عاد يمكنٌ حصرها.

في هكذا عراق (يابان الشرق الأوسط) تنتشر تجارةُ من نوع مختلف, لم نصنع الأجهزة الكهربائية و لا السيارات كما فعلت اليابان عقب الحرب بل لعراقنا منتوجاتٌ من نوعٍ مختلفٍ تماماً؛ أكثرُ جودة و أقلُ كلفة , في عراقنا الحبيب يتمُ بيع الأطفال, هل هنالك ما هو أروع من الطفولة ؟
لقد وردت تقارير عن صحفيين سويديين (مبغضين للعراق الجديد و للنهضة الحاصلة فيه و لربما يكونون بعثيين أو من أزلام النظام السابق أو على الأرجح من العرب الحاقدين) أنهم تخفوا و دخلوا سوقاً لبيع الأطفال في بغداد و تم عرض طفلة تبلغ أربعة أعوام تم بيعها بمبلغ 500 دولار....ربما لسنا الوحيدين و لكننا الأرخص .

أسواق للنخاسة في وسط بغداد! يا للحرية و الديمقراطية , يا لعدالة الدين و تسامحه ما هذا القدرُ الذي نجيا؟ أطفالنا يباعون لمن يدفعُ, في القرن الحادي و العشرين يتم بيع البشر ليصبحوا عبيداً بعد أن ولدتهم أمهاتهم أحراراً!

مذ سمعتُ هذا الخبر و ألهواجس تطاردني؛ ماذا لو كنتُ أباً؟ أمرُ بظروفٍ صعبة, أعجزُ عن توفيرِ لقمةٍ لأولادي , الجوع يلتهمهم بدل أن يلتهموا هم الطعام, البردُ يهلهكهم و لا أقدرُ على رده , الموتُ يطاردني و يطاردهم, مضطرٌ أنا للهرب , هذا إن وفقتُ بالهرب قبلَ أن تنالَ مني رصاصةُ حقدٍ أعمى, الأولادُ مع أُمهم إن لم تكن قد قتلت أيضاً, في حيرةٍ هي, بلا نقود بلا طعام بلا والٍ أو معيل , الحملُ ثقيل, يتسربُ الأولاد, يلتقطهم أحدٌ مما؛ بعضهم يفخخ و يرسلُ الى الجنة بأسرع طريقة و آخرٌ يسلكُ طريقهُ في هذه الحياة ليبيع السجائر في التقاطعات و منهم من سيدمنُ على المخدرات كحالِ أحدَ عشر الفاً من أطفال بغداد, و الفتاةُ تتعرض للتحرش الجنسي كما هو حال ألعشرات من الفتيات الصغيرات في العراق, و الأصغر يباعون في أسواق النخاسة ليصبحوا دمى يتسلى بها أصحاب الأموال ليشغلوا وقتَ الفراغ الذي يعيشونه.

ما أوردتهُ اليونسيف عن أوضاع الأطفال في العراق يثير الرعب و يبشر بكوارث حقيقية تهدد الأجيال القادمة:
" لم يتمكن سوى 28 بالمائة من الذين تبلغ اعمارهم 17 سنة في العراق من اداء امتحاناتهم النهائية ولم تتجاوز نسبة الذين حصلوا على درجة النجاح 40 بالمائة من مجموع الطلاب الممتحنين في مناطق وسط وجنوب العراق.
• بلغ عدد الأطفال النازحين في سن الدراسة الإبتدائية 220,000 طفل، ولم يستطع عدد كبير منهم مواصلة تعليمهم هذا العام ناهيك عن نحو 760,000 طفل (17%) لم يذهبوا اصلا الى المدارس الإبتدائية خلال عام 2006 .
• في كثير من الأحيان، حُرِمَ الأطفال في المناطق النائية والتي يصعب الوصول اليها من خدمات الرعاية المصممة للوصول الى تلك المناطق.
• 20 بالمائة فقط من الأطفال خارج مدينة بغداد يحصلون على خدمات شبكة الصرف الصحي في مناطق سكنهم ويضل الحصول على الماء الصالح للشرب مشكلة كبيرة.
• بلغ المعدل الشهري للأطفال النازحين بسبب اعمال العنف والتهديدات 25,000 طفل مما اضطر عائلاتهم للبحث عن مأوى في مناطق اخرى من البلاد. وفي نهاية عام 2007 بلغ عدد الأطفال الذين لجأوا الى العيش في المخيمات او الملاجئ المؤقتة نحو 75,000 طفل (25
المائة من الذين هُجروا من منازلهم في اعقاب تفجير مرقد سامراء في شباط 2006)
• لقي مئات من الأطفال حتفهم او اصيبوا في اعمال العنف وتعرض المعيل الرئيس لأسر آلاف الأطفال للإختطاف او القتل.
• احتجزت الشرطة او القوات العسكرية نحو 1,350 طفل، وتزعم السلطات ان الكثير منهم متورط بخروقات امنية" .


أنا هنا أتقد بالشكر لكل أصحاب المناصب في بلدي فجهودهم واضحة و منجزاتهم قد أوصلتنا الى ما لم نكن نحلمُ به أبداً؛ وهل كنا لنحلم ببيع أولادنا؟ أتقدم بالشكر لسماحة المرجع الأعلى آية العظمى السيد علي السيستاني و الذي يكتفي بالصمت كعادته في مثل هذه المواقف (دام ظله الوارف علينا و عالخلفونا ).
أتقدم بالشكر لهيئة علماء المسلمين لجهودها في تهجير الناس و غضها البصر عما يحل بالأطفال و عدم مبادرتها لمعالجة الموضوع أو إثارته.
أتقدم بالشكر لفخامة الثلاثي الرئاسي المرح و لسعادة رئيس الوزراء لنومهم عن هذه الكارثة , أتقدم بجزيل الشكر للسيد رئيس البرلمان و للسادة الأعداء في البرلمان العراقي لجهودهم في تغيير العلم العراقي و إهمالهم لملايين الأطفال في العراق.

براءةُ الأطفال قد محيت في بلدي ؛ الذئبُ مزقَ ليلى إرباً إرباً فما تمكن أحدٌ من إسعافها, و سندريلا العراق تخدمُ في البيوت و مامن جنيةً تظهرُ في حياتها, أما الأميرةُ الحسناء فقد قتلها سحرُ الساحرة و لم يهب الأقزام لمساعدتها, و أما أنا فما عدتُ أرغبُ أن أُصبح طفلاً فما ضمانٍ أني سأنجو من وحشيةِ هذا الزمن؛ وحمدتُ ربي أن الطفلة التي قبلت لا تعيشُ في بلدي فهذا ينجيها أيضاً.

مشيتُ و أنا أُردد (جنة...جنة ...جنة ....جنة يا وطننا)؛ جنةٌ أنت يا عراق, و لكنك جنةٌ بلا خضرة فقد جرفت البساتين في ديالى, جنةٌ أنت يا عراق و لكن بلا نخيل فقد أنحدرت أعداد نخيلك الى أدنى مستوياتها بعد أن سميتَ عراقاً لتشابك عروق النخيل فيك, جنةٌ انت يا وطني و لكن أنهاركَ لا تروي الشاربين و الناسُ بلا مياهٍ صالحةٍ للشرب, جنةٌ أنت يا وطني و لكنك تعيشُ ضلاماً دامساً, جنةٌ أنت يا وطني و لكنَ ملائكتك تباعُ بعد ان كُسِرت أجنحتها فلم يبقَ فيك إلا ملكُ الموت يقبض الأرواح بالعشرات فلا يدعكَ تصبحُ جنة خلد.
حتى نارك جنة......حتى نارك جنة

No comments: