ها قد مضت أسابيعٌ على تلك الحادثة وما زلتُ عاجزاً عن تجاوزِ ذلك الحوار , تبدأ القصة في بيتِ أحد العراقيين والذي يعمل في إحدى جامعات بريطانيا , كنا مدعوين في منزلهِ وبادر الرجلُ بفتح موضوع البلد وما يجري فيه وكان السخطُ بادياً على وجههِ وهو يتحدثُ منتقداً ليس الحكومة ولا المحتل بل الشعب وسلوكهُ تجاه الحكومة وتعجلهُ للأُمور وكثرةِ الإنتقادات التي يوجهونها للحكومة المسكينة وعدم تفهمهم للمهمام الجسيمة التي تؤديها وللمنجزات العظيمة التي تحققت .
حاولتُ أن أتمالك أعصابي رغم أني كنت أغلي من الداخل فبادرتُ بسؤالٍ هاديءٍ عن ماهية هذه المنجزات, فكان الردُ سريعاً مليئاً بالثقة (لننظر الى أيِ مائدةِ طعامٍ في العراق أهي أفضلُ الآن أم قبل الحرب؟!!).
إستعذتُ بالله من الشيطان الرجيم مع نفسي وبادرتُ بسؤالٍ آخر (هل إزدادت البطالةُ الآن أم قلت؟) , تلعثم الرجلُ قبل أن يرد بأن كل أقاربهِ يعملون الآن وأن هنالك من يعدُ أفراد الجيش السابق عاطلون رغم أنهم يتلقون تقاعدهم بصورةٍ منتظمة, فأعدتُ عليهِ نفسَ السؤال(هل إزدادت البطالةُ أم قلت؟) ليردَ بأن لا إحصائياتَ لديه , فأخبرتهُ بأنها إزدادت وهذا موثقٌ بالإحصائيات الرسمية .
ليس القصد مما أكتب إنتقادُ هذا الرجل بل لدينا مشكلةٌ أكبر بكثير, هذه المشكلة تكمن مع المغتربين خارج العراق , لا يمكن إنكار فضل من كان خارجَ القطر في فترة ما قبل الحرب فمعظمهم بادر لمساعدة أقاربه وإسنادهم وكثيرٌ منهم كان مصدر الرزق لعوائلٍ عدة داخل البلد ولا أقصدُ هنا الإنتقاص من عراقية من عاشَ طويلاً خارج العراق فالعيش بعيداً لا ينقصُ من وطنية المرء مادام يحسُ بهذه الوطنية , ولكن تكمن المشكلة مع كثيرٌ من المغتربين في صعوبة تقديرهم لما يجري في الداخل وصعوبة تخيلهم لجم معاناة الناس اليومية.
يبادر البعضُ هنا لدعمِ هذا أو ذاكَ من الساسة وتأييدهُ كما لو كان ملاكاً هبط من السماء لا يمكن محاسبتهُ أو الإنتقاصُ منه ويبادرُ البعض الآخر بالحديثِ عن نظرةٍ مستقبلية مليئة بالتفاؤل والأمل ؛ يبدو أن الجميع قد عجز عن فهم واقع أن الأمل في تناقصٍ مستمر حتى وصل الى أدنى مستوياته وأن الدمار والألم في تصاعدٍ مستمر حتى ناهزا القمة كما يعجزون عن تخيل ما يفعل الساسةُ الذين يدعمون من إستهتارٍ بحقوق الناس الى تعدٍ على الممتلكات العامة وقطعٍ للطرقات وإختلاساتٍ لا تحصى ولا تُعد.
يتمادى البعضُ عند حديثهم عن الأوضاع وهم يدعمون طائفتهم أو مذهبهم لتأييد الحرب الأهلية وأن الأغلبية أو أصحاب الحق سينتصرون ثم يستقر كل شيء ويعرفُ كلُ طرفٍ حجمهُ وحقوقهُ ؛ أيُ وقاحةٍ هذه وأيُ لؤمٍ وسفالةٍ وأنانية ؟ أيُ إستهتارٍ بدماء الأبرياء هذا الذي يتحثون عنه ؟ على كل من يرى في وجوب وقوع هذا الإقتتال أو في مشروعية أي من أطراف النزاع أن يبادر بالذهاب أو بإرسال أولاده للمشاركة في معركة العز والشرف التي يصف لا أن يجلس بعيداً وهو ينظر الى شعبٍ بكامله وهو يحترق لينعم هو برغيد العيش ويهنأ بترف الحياة .
على كلِ من تغرب أن لا يتناسى ان من يعيشون هناك هم بشرٌ مثلهم لا ينقصهم من مقومات البشر شيءٌ , هم ليسوا شحاذين ترسلون لهم صدقاتكم وزكاتكم فتكونون أنتم المتفضلين وهم المستجدين وهم ليسوا خرافاً يساقون الى الذبح لكي لا يضمأ من تعطش لمنظر الموت وأخبارهِ أو ليُحس بعض الحمقى بنشوةِ النصر , ليسوا العراقيين حثالة وأنتم السادة ولا فضل لكم عليهم غير أنكم إستعملتم معاناتهِم وسيلة لتنالوا حق اللجوء في بلدانٍ أرادت أن تتحدث بأسمِ الإنسانية في وقتٍ معين .
على كلِ من يريد الحديث عن بلدي أن يتخيل حياة الناس اليومية , حياةُ الألم والمعاناة , حياةٌ بلا كهرباء ولا وقود ولا كثيرٌ من المستلزمات الأخرى , حياةٌ مع الرعب حتى صارُ الرعب صاحباً وخليلاً , قلقٌ مستمرٌ لا يتوقف , على كلِ من غادر عتبة الدار للخروج ولو لمكانٍ قريب , قلقٌ على كلِ من تأخر عن موعدهِ لو لدقيقةٍ واحدة, قلقٌ يصاحبهم حتى وهم نيام , رعبٌ دمر كل فرحة وشوه كل أمل, يطرقٌ الباب أذا ما أبتسموا ليحول إبتسامتهم الى نظرةٍ ترقب.
لم ينسى زمنُ الموتِ هذا أحداً منهم بل وزع الأدوار بينهم بإتقان فهم إما قتلى أو ثكلى , إمهاتٌ باكياتٌ وآباءٌ منكوبون , أولادٌ يقتلون وبناتٌ يختطفن ويغتصبن وأطفالٌ أُستُغلت برآءتهم ليُستَخدموا كقنابل وسُمِمَت أفارهم ليكرهوا الحياة قبلَ أن يعرفوها حتى .
نتحدثُ الآن عن موائدِ الطعام وتحسنِ المعيشة:هل سألَ أحدٌ نفسهُ ماذا يأكلُ الأيتامُ الذين يزدادُ عددهم كلَ يومٍ؟ هل سألَ أحدٌ نفسهُ كيف يعيشُ من لا وظيفةَ لهُ وقد أُغلقت أبوابُ الرزقِ كلها بفضل الحرية التي يزعُم البعضُ وجودها ؟هل سألَ أحدٌ نفسَهُ كيف تعيشُ العوائلُ التي هجرت ؟هل سألَ أحدٌ نفسَهُ كيف يواجهُ الناسَ البردَ القارسِ في الشتاء مع هذهِ الشحة في الوقود؟ هل سألَ أحدٌ نفسَهُ عن الشباب وإمكانية الزواج وهل أرتفعت نسبة الزيجات أم إنخفضت؟ يبدو أن الكثيرين يكتفون بخطب فلان أو علان الرنانة والتي لا تسمنُ ولا تغني من جوع.ويبدو أن الكثيرين أضحوا بمستوى من السذاجة ليصدقوا ما يذاعُ في قنوات التفاؤل الإعلامي التي تحاول وصفَ البلد بأنهُ نال أكثر مما كان يحلمُ بهِ.
إن مدن العراق كلها تعاني مع إختلاف واقع الأمن في بعضها مع العلم أن كل المدن الآمنة تخلو من إي مظهرٍ من مظاهر الديمقراطية إذ أن هنالكَ قوة معيبنة تسيطر على مجريات الأُمور ,كلُ المدن محرومة من خدماتٍ صحية حقيقية وكلها بلا مجاري وتعاني نقصاً في الكهرباء وبطالة وفساد إداري وما الى ذلك من مصائب الدهر . ومما يلاحظُ أيضاً أن الأمن بدأ يتزعزع في المدن التي كانت آمنة؛ فهذهِ هي البصرة تغلي على لهيب العداء بين حزب الفضيلة وجيش المهدي ولربما أن هذا سينسحب على باقي المدن .
يقولُ المثل (إذا طاح القوي كثرت سكاكينه) هل يودُ أهل البلد أن يكونوا سكيناً تضافُ الى قائمة السكاكين المغمدة, في قلب العراق , هل من الواجب ان يخسر أحدُنا فرداً من عائلته أو ممن يحب ليقدرَ حجم المعاناة .
مازلتُ أتذكرُ منظرُ الأمهات وهن يجلسن بجانب وحدة الطواريء يندبن أولادهن , كان هذا المنظر يتكررُ كل يومٍ وفي نفس المكان ؛منظرٌ يعجزُ البشرُ عن تحملهِ ولكن يبدو وللأسف أن للكثيرين الرغبة في تجاهلهِ أو تناسيه , لربما هو ترفُ العيش ورغيدهُ أو أنها الراحة وعدم القلق قد أفقدت الناس القدرة على النظر للأمور بواقعية .
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
6 comments:
مازلتُ أتذكرُ منظرُ الأمهات وهن يجلسن بجانب وحدة الطواريء يندبن أولادهن
yeah, I hear you my friend. As a journalist covering the war and seeing all those things like you doctors, I can't but have the same images in my mind every night. I still have nightmares with the same images and stories and mayhem. Oh man! I don't even know what to say.
I had a converstation with a fellow Iraqi some time ago. I was furious about the incompetency of the government in dealing with EVERYTHING and ANYTHING. He didn't like what I was saying and replied angrily that the goverment consists of people loyal to Iraq, loyal to its people and its doing great deal to ensure that everyone will live in prosperity. That conversation took place one year and a half ago.
I met that guy again and we had the same conversation... He said with dismissal to my remarks that the problem is not in the goverment, but it is with some people who are influencing the situation badly.
What I am trying to say is that those people realize the truth, but they don't admit it. There are many who believe that the whole situation will not be solved unless a civil war burn every living thing in the country, without thinking that there are innocent people who are the only ones paying the price.
Selfishness and denyal became the dominant behavior... and the result: the country is sinking more within the blood of its own people, and outsiders (whoever they are) are keep on making fun at those people
على كلِ من يريد الحديث عن بلدي أن" يتخيل حياة الناس اليومية , حياةُ الألم والمعاناة , حياةٌ بلا كهرباء ولا وقود ولا كثيرٌ من المستلزمات الأخرى , حياةٌ مع الرعب حتى صارُ الرعب صاحباً وخليلاً , قلقٌ مستمرٌ لا يتوقف , على كلِ من غادر عتبة الدار للخروج ولو لمكانٍ قريب , قلقٌ على كلِ من تأخر عن موعدهِ لو لدقيقةٍ واحدة, قلقٌ يصاحبهم حتى وهم نيام , رعبٌ دمر كل فرحة وشوه كل أمل, يطرقٌ الباب أذا ما أبتسموا ليحول إبتسامتهم الى نظرةٍ ترقب."
That is exactly what I am trying to tell every body about!!
Good job a&eiraqi.
ALL the media is biased to a side. Some are biased to Al-Qaeda and making them heros, some are biased to Shiaa as a sect, and other biased to Sunnis as a sect, and others are biased to the US.
No one is showing the real picture of life in Iraq. I see it as our duty to be the speaking voice of Iraqis. It does not matter what sect are we, by the end of the day, we are all Iraqi.
I don't want to sound like I am doing a march in the president's birthday. But the real life of Iraqis is a living HELL in all aspects. We have to make the people see it, and get the media cloud off their eyes.
Thank you once again A&EIraq.
a&e iraqi,
that was such a good post..so sad, so true ..
whats beyond me is how can ppl like this one u r talking to, how can they convince themselves with what they say, to the point that they get to really blv it, and whats worse, try to convince others with..
v good post..
ashat eedak..
a&e iraqi,
that was such a good post..so sad, so true ..
whats beyond me is how can ppl like this one u r talking to, how can they convince themselves with what they say, to the point that they get to really blv it, and whats worse, try to convince others with..
v good post..
ashat eedak..
Post a Comment