Wednesday, 7 January 2009

موكب الإباء

"والله لا تمحو ذكرنا و لا تُميتُ وحينا"
هذه الكلمات صدرت من امرأة لا يُتوقعُ منها أن تكون قادرةَ على النطق, امرأةُ قد حل بها ما حل من مصائب الدهر.

في هكذا يوم من كل عام تمر علينا ذكرى يراها الكثيرون مؤلمة و أرى فيها دروساً مع المها, لا أنكر أن فيها غصةً و حرقة و لكن فيها عبرةً و حكمة.
ليس يوم استشهاد الحسين (ع) كغيره, بل هو أهم بكثير, ففيه تتمةٌ يكتمل بها الدين و يُؤكد فيها آخر مَبدأ من مبادئ الإسلام, إنه ببساطه (الثورة).
أمرُ لم يحتج إليه المسلمون قبل الحسين و لم يعرفوه حق معرفته, فجاء ريحانة رسول الله (ص) ليخط المنهج و ليوضح لنا الصورة و ليؤكد لنا أن جده قد تركه فينا مع كتاب الله كي لا نضل من بعده.

لقد كان الحسين(ع) الرجل عند الموقف الصعب و صرخة الحق التي مزقت الصمت الذي سمح للباطل أن يسود.
انه حالة الرفض التي كنا و لا زلنا نحتاجُ اليها, أنه لواء الدين الذي ظل مرفوعاً منذ ذلك اليوم و الكلمة السواء التي يلوذ بها كل مظلوم.
أنه المنهج الصحيح و الطريق القويم و خير هاد بعد رسول الله (ص) إلى الصراط المستقيم.
أنه منارة الحق و مصباح الهدى و سفينة النجاة التي طالما وددتُ لو حملتني.

لستُ هنا لأعيد عليكم ما تعرفونه او لأذرف دمعتين و أطوي الصفحة بل أنما أردت أن أستوحي مما جرى فكرةً تفيدنا لما هو آت.
لم تكن التضحية شيئاً جديداً أو غير متوقع, و ليس الحسين(ع) أول من ضحى ولم يكن الأخير, ولكن أن يأخذ المرء كل أهله و عياله ليضحي بهم هو الجديد و غير المعتاد, أن يرى المرء أهله أمام عينيه و هم يذبحون الواحد تلو الآخر و ينظر من خلفه ليرى عيالاً يغدون أيتاماً, هو ما يصعب تحمله.
أن تحين فرصةٌ للخلاص من هكذا كابوس و يعرض عليك أن تتجنب مصيبةً تحل بك و بأهل بيتك فلا تزداد إلا ثباتاً, هو ما يندر حدوثه.
رجلُ وسط الصحراء, ترك موطن أهله و جاء قاصداً من أدعوا بيعته و وعدوه نصرته فلم يجد مما وعد شيئاً.
أتساءل هنا: ماذا كان سيحدث لو أن الحسين(ع) اختار أن يرجع لينجو بنفسه و أهله بعد أن علم بنكث العهد و تخاذل من أدعوا نصرته؟ كيف كان ليصبح الإسلام من غير ثورة الحسين(ع)؟

الحسين لم ينل ملكاً و لكن ترك منهجاً, و الملك يزول أما المنهج, فمضى في النفوس و بقيت الذكرى في القلوب.
لقدر ترك الحسين مبادئ و قيم , لو أننا سرنا عليها لما ضللنا أبدا و لا ذللنا يوماً.
لقد ترك فينا نهجاً لو أننا تبعناه لما سالت اليوم دمانا في غزة و لما ضاع العراق و لما كان ما كان.
إننا نبكي الحسين و لكننا نُبكيه في نفس الوقت, نحن نشتاق الحسين و لا نبره و نذكر الحسين و ننصرف عن خطه!!
لم تكن القصة لرجل واحد, بل صورة متكاملة لموقف أسرة, اختير لها أن تعطي أروع صورة و أن تغدو مضرباً للأمثال.

و هنا علينا أن نعود الى زينب؛ ها هي تشاهد أخاها و هو في أصعب الظروف ثم ها هو أمامها و فرسانه يقتلون الواحد تلو الآخر, ها هم و قد أنهكهم العطش, ها هو العباس يقتل فيغدو الحسين وحيداً يحمل طفلاً رضيعاَ بين يديه ليناله سهمٌ, ها هو أخوها يمتطي جواده و يقاتل بكل ما أوتي من قوة فينهال عليه القوم برماحهم و سهامهم حتى يسقط أرضاً و تسكن حراكه, ها هو أمامها و هم يحزون رأسه, لم تستطع أن تشبع عينيها من هذا المشهد فقد بدأت النيران تأكل خيامهم, ها هم الصغار الذين أنهكم الحزن و العطش و لم يبق لهم من يلوذا به الا الله و عمتهم زينب.ها هي الحوراء تنظر إلى السجاد, آخر من تبقى من نسل جدها و هو سقيم لايكاد يقوى على الحركة.

كل هذا مر على زينب, زينب التي أضحت غريبةً و سبيةُ مأسورة, لم يتوانى في إهانتها أراذل الناس بعد أن رأت أهلها يُقتلون الواحد تلو الآخر لتجد نفسها قد تُركت وحدها مقيدةً بالسلاسل و عليها تحمل فوق همومها , هموم من بقي من أيتام أسرتها المنكوبة.
زينب(ع) لم تسمح لطاغية زمانها بأن يذلها و لم تسمح لمصيبتها أن تنقص من شموخها, بل استجمعت ما لديها من قوة و صدحت بصوت الحق مُذلةً بكلماتها من أراد أن يذلها و تاركةً درساً للأجيال كي يتعلموا منه الشموخ و الإباء, لا عجب فالحوراء زينب هي خريجة مدرسة الإباء التي تبدأ بجدها رسول الله (ص) و لا تنتهي بأخيها الحسين (ع).

أُخذت زينب في ذلك الطريق الطويل مارةً بعدة مدن و محن, رأت خولة تموت أمامها, و رأت رقية تقتل بلا سفك دم و لم تنثني عن مهمتها و لم تسمح لأحد أن يذلها بل بقيت زينب صابرةً و قوية و شامخة في موكب سبايا أٌريد لهم أن يُذلوا فغدوا بموكب الأسر رمزاً للإباء.


No comments: